رحيل فهد الأسدي.. سارد الأهوار الحزين

المقاله تحت باب  أخبار و متابعات
في 
13/01/2013 06:00 AM
GMT



برحيل القاص والروائي فهد الأسدي في بغداد يوم 7-1-2003 يكون مشهد السرد العراقي قد خسر أحد بناته الأساسيين، من القصاصين والروائيين الذين مثلت أعمالهم الواقعية نقلة محسوبة في القص العراقي، قربته، أي القص، كثيرا من عالم المهمش، والمسكوت عنه.

ولد الأسدي في بيئة الأهوار جنوب العراق، وتحديدا في مركز الأهوار منطقة الجبايش.. ثم انتقل إلى بغداد ليمضي عمره هناك. ولكن توقه لعالم الأهوار كان واضحا على الدوام في أعماله، وخاصة: «طيور السماء» و«الصليب - حلب ابن غريبة» ومجموعته «معمرة علي».

ومثل معظم أقرانه من مثقفي جيل الستينات العراقي، عمل الأسدي في السياسة، ولم ينج من شرورها فيما نعيمها ظل محصورا بنخب سياسية تدمن الحصول على مكاسب وقتية لينتهي بها المطاف بين منفى وموت في دهاليز السجون أو ما شابه. الأدب كان عاصما للأسدي، وعن ذلك يقول: «هناك واقع موضوعي وواقع فني ولكي يكون الكاتب صادقا فنيا ينبغي أن يكون صادقا موضوعيا... لم أكن سياسيا ولا حزبيا يوما ما لكني أعترف أن ساسة كبارا رسموا طريقي، فأصبحت سياسيا رغمي، الأدب ساحة سياسة أخرى وهي أصدق من الساحة السياسية»، وربما هذا ما يفسر شعبية أدبه. وهي شعبية مفتقدة بالنسبة إلى كثير من النماذج العراقية، وإن كانت تذكر بتجارب لافتة في هذا الطريق شكلها: غائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي وسواهما.

مادة الأسدي، في اشتغالاته الكتابية، كانت محدودة، وهي بيئة الأهوار، كما أسلفنا. ومع ذلك، فلقد استطاع أن يخرج بتلك المادة إلى فضاء عالمي، إن جاز التعبير، خاصة إذا ما أدركنا أن أول شرط لبلوغ العالمية، كما يرى نقاد الأدب، هو استنطاق المحلية.

واقعيته لا غبار عليها. يرى القاص جهاد مجيد أن الأسدي «ابن شرعي لتشيخوف وموبسان في تشكيل مشهد قصصي واقعي غائر العمق، وهو ابن شرعي لغوغول حين يصعد واقعيته إلى حدود الفانتازيا وابن شرعي لغوركي في موقفه التقدمي من الإنسان والحياة»، ورغم فخاخ الواقعية في سنوات الديكتاتورية فإنه ظل مخلصا لمشروعه القصصي. كانت المحاماة تنقذه في الكثير من الأحيان من الجوع، رغم أنه لم يكن يترافع إلا عن الفقراء، تماما مثل مرافعاته في قصصه، حيث عادة ما يكون أبطاله من الفقراء أيضا.

الجيل الذي ينتمي إليه الأسدي جيل إشكالي، ونعني جيل الستينات، فهو جيل خبر الصراعات الآيديولوجية، ولكن الأسدي كان يستدير لذلك كي يكتب قصة مستوحاة من لوحة شاهدها مصادفة، أو عن صائد سمك ظلت صورته عالقة في رأسه، أو عبد يراد إخصاؤه فيتحول إلى شيخ لا تستغني عنه نساء الشيوخ الحقيقيين.. موضوعات مغرقة في بيئيتها، ولكنها ترسم لنا أحوالا عن الظلم، الإقطاع، الخوف، الجنس، والتوق للحرية.

ولا يخفي الأسدي تأثره بالأدب الروسي، أو الواقعية الاشتراكية بلغة أهل النقد، ويمكننا تأكيد ذلك إذا ما استذكرنا هبوب رياح الاشتراكية على منطقتنا في الستينات، على أن الراحل لم يكن ليستنسخ تجارب ديستوفسكي أو تولستوي أو غوغول، والسبب بسيط جدا: كانت تلك الأعمال تحكي عن بيئة خاصة، وعلى الكاتب هنا أن يبحث هو الآخر عن بيئته، وهذا ما فعله الأسدي.

وقصص الأسدي درامية بامتياز، ولعل هذا هو السبب الأساس الذي دعا بعض المسرحيين العراقيين لاستلهامها وتقديمها على خشبات المسارح. كانت تجربة الفنان عزيز خيون مخرجا وعواطف نعيم كاتبة، في مسرحية «مطر يمة» واحدة من التجارب التي استلهمت قصصه. ورغم انتقاداته اللاذعة التي وجهها للعمل، بوصفه صاحب بذرته الأولى، فإنه يؤكد كثيرا على احترام خيارات الآخرين في تناول أعماله.

أمضى الأسدي سنوات طويلة لا يفارق منزله في منطقة بغداد الجديدة، سواء كان ذلك بسبب اليأس أو العجز... والمرض حتما. كان يرى بأم عينيه الكثير من الأحلام وهي تتهاوى، ففضل الصمت. خذلته قواه، كما قال كثيرون، ولكن ذلك لم يمنعه من الحضور، كلما تسنى له الأمر، إلى بناية اتحاد الأدباء في ساحة الأندلس وسط بغداد، لحضور فعالية ثقافية ما.

ويبدو أن المرض والإهمال الحكومي جزء لا يتجزأ من سيرة مبدعي بلاد الرافدين.. فخلال الأسبوع الأول فقط من هذا العام الجديد فقدت الأوساط الثقافية والفنية العراقية ثلاثة أسماء بقيت تئن من آلامها وحيدة دون أي مساعدة حكومية، وكأن هؤلاء لم يفنوا أعمارهم على مذبح الثقافة والحرية في البلاد..

كان الأسدي هو آخر هؤلاء الثلاثة. سبقه الفنان القدير وجدي العاني (مخرج مسرحي) ثم الشاعر هادي الربيعي (شاعر من جيل الوسط).

المشيعون في بغداد رددوا ترنيمة مشابهة في المناسبات الثلاث، وهي ترنيمة السياب العميقة:

لتبكين على العراق

فما لديك سوى الدموع

وسوى انتظارك، دون

جدوى، للرياح وللقلوع